الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
الشرح: قوله: (باب الصلاة بمنى) أي هل يقصر الرباعية أم لا؟ وقد تقدم البحث في ذلك في أبواب قصر الصلاة في الكلام على نظير هذه الترجمة، وأورد فيها أحاديث الباب الثلاثة، لكن غاير في بعض أسانيدها: فإنه أورد حديث ابن عمر هناك من طريق نافع عنه، وهنا من طريق ولده عبيد الله عنه. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ الْمُنْذِرِ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ أَخْبَرَنِي يُونُسُ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ عَنْ أَبِيهِ قَالَ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمِنًى رَكْعَتَيْنِ وَأَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ صَدْرًا مِنْ خِلَافَتِهِ الشرح: قوله: (وعثمان صدرا من خلافته) زاد في رواية نافع المذكورة " ثم أتمها " وأورد حديث حارثة هناك عن أبي الوليد وهنا عن آدم كلاهما عن شعبة، وحديث ابن مسعود هناك من رواية عبد الواحد وهنا من رواية سفيان كلاهما عن الأعمش. الحديث: حَدَّثَنَا قَبِيصَةُ بْنُ عُقْبَةَ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ صَلَّيْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ أَبِي بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكْعَتَيْنِ وَمَعَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ تَفَرَّقَتْ بِكُمْ الطُّرُقُ فَيَا لَيْتَ حَظِّي مِنْ أَرْبَعٍ رَكْعَتَانِ مُتَقَبَّلَتَانِ الشرح: قوله: (فليت حظي من أربع ركعتان) قال الداودي: خشي ابن مسعود أن لا يجزئ الأربع فاعلها وتبع عثمان كراهة لخلافه، وأخبر بما يعتقده. وقال غيره: يريد أن لو صلى أربعا تكلفها فليتها تقبل كما تقبل الركعتان انتهى. والذي يظهر أنه قال ذلك على سبيل التفويض إلى الله لعدم إطلاعه على الغيب وهل يقبل الله صلاته أم لا، فتمنى أن يقبل منه من الأربع التي يصليها ركعتان ولو لم يقيل الزائد، وهو يشعر بأن المسافر عنده مخير بين القصر والإتمام والركعتان لا بد منهما، ومع ذلك فكان يخاف أن لا يقبل منه شيء، فحاصله أنه قال: إنما أتم متابعة لعثمان، وليت الله قبل مني ركعتين من الأربع. وقد تقدم الكلام على بقية فوائد هذه الأحاديث في أبواب القصر وعلى السبب في إتمام عثمان بمنى ولله الحمد. *3* الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنَا سَالِمٌ قَالَ سَمِعْتُ عُمَيْرًا مَوْلَى أُمِّ الْفَضْلِ عَنْ أُمِّ الْفَضْلِ شَكَّ النَّاسُ يَوْمَ عَرَفَةَ فِي صَوْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَعَثْتُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِشَرَابٍ فَشَرِبَهُ الشرح: (لا يوجد شرح). *3* الشرح: قوله: (باب التلبية والتكبير إذا غدا من منى إلى عرفة) أي مشروعيتهما، وغرضه بهذه الترجمة الرد على من قال. يقطع المحرم التلبية إذا راح إلى عرفة، وسيأتي البحث فيه بعد أربعة عشر بابا إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ الثَّقَفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ وَهُمَا غَادِيَانِ مِنْ مِنًى إِلَى عَرَفَةَ كَيْفَ كُنْتُمْ تَصْنَعُونَ فِي هَذَا الْيَوْمِ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ كَانَ يُهِلُّ مِنَّا الْمُهِلُّ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ وَيُكَبِّرُ مِنَّا الْمُكَبِّرُ فَلَا يُنْكِرُ عَلَيْهِ الشرح: قوله: (عن محمد بن أبي بكر الثقفي) تقدم في العيدين من وجه آخر عن مالك " حدثني محمد " وليس لمحمد المذكور في الصحيح عن أنس ولا غيره غير هذا الحديث الواحد، وقد وافق أنسا على روايته عبد الله بن عمر أخرجه مسلم. قوله: (وهما غاديان) أي ذاهبان غدوة. قوله: (كيف كنتم تصنعون) أي من الذكر، ولمسلم من طريق موسى بن عقبة عن محمد بن أبي بكر " قلت لأنس غداة عرفة: ما نقول في التلبية في هذا اليوم". قوله: (فلا ينكر عليه) بضم أوله على البناء للمجهول. وفي رواية موسى بن عقبة " لا يعيب أحدنا على صاحبه " وفي حديث ابن عمر المشار إليه من طريق عبد الله بن أبي سلمة عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر عن أبيه " غدونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من منى إلى عرفات، منا الملبي ومنا المكبر " وفي رواية له " قال - يعني عبد الله بن أبي سلمة - فقلت له - يعني لعبيد الله - عجبا لكم كيف لم تسألوه ماذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع " وأراد عبد الله بن أبي سلمة بذلك الوقوف على الأفضل، لأن الحديث يدل على التخيير بين التكبير والتلبية من تقريره لهم صلى الله عليه وسلم على ذلك، فأراد أن يعرف ما كان يصنع هو ليعرف الأفضل من الأمرين، وسيأتي من حديث ابن مسعود بيان ذلك إن شاء الله تعالى. *3* الشرح: قوله: (باب التهجير بالرواح يوم عرفة) أي من نمرة، لحديث ابن عمر أيضا " غدا رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صلى الصبح في صبيحة يوم عرفة حتى أتى عرفة فنزل نمرة - وهو منزل الإمام الذي ينزل فيه بعرفة - حتى إذ كان عند صلاة الظهر راح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجرا فجمع بين الظهر والعصر، ثم خطب الناس، ثم راح فوقف " أخرجه أحمد وأبو داود، وظاهره أنه توجه من منى حين صلى الصبح بها، لكن في حديث جابر الطويل عند مسلم أن توجهه صلى الله عليه وسلم منها كان بعد طلوع الشمس ولفظه " فضربت له قبة بنمرة فنزل بها حتى إذا زاغت الشمس أمر بالقصوى فرحلت فأتى بطن الوادي " انتهى، ونمرة بفتح النون وكسر الميم موضع بقرب عرفات خارج الحرم بين طرف الحرم وطرف عرفات. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ عَنْ سَالِمٍ قَالَ كَتَبَ عَبْدُ الْمَلِكِ إِلَى الْحَجَّاجِ أَنْ لَا يُخَالِفَ ابْنَ عُمَرَ فِي الْحَجِّ فَجَاءَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَأَنَا مَعَهُ يَوْمَ عَرَفَةَ حِينَ زَالَتْ الشَّمْسُ فَصَاحَ عِنْدَ سُرَادِقِ الْحَجَّاجِ فَخَرَجَ وَعَلَيْهِ مِلْحَفَةٌ مُعَصْفَرَةٌ فَقَالَ مَا لَكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَقَالَ الرَّوَاحَ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ قَالَ هَذِهِ السَّاعَةَ قَالَ نَعَمْ قَالَ فَأَنْظِرْنِي حَتَّى أُفِيضَ عَلَى رَأْسِي ثُمَّ أَخْرُجُ فَنَزَلَ حَتَّى خَرَجَ الْحَجَّاجُ فَسَارَ بَيْنِي وَبَيْنَ أَبِي فَقُلْتُ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَاقْصُرْ الْخُطْبَةَ وَعَجِّلْ الْوُقُوفَ فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ قَالَ صَدَقَ الشرح: قوله: (عن سالم) هو ابن عبد الله بن عمر. قوله: (كتب عبد الملك) يعني ابن مروان. قوله: (إلى الحجاج) يعني ابن يوسف الثقفي حين أرسله إلى قتال ابن الزبير كما سيأتي مبينا بعد باب. قوله: (في الحج) أي في أحكام الحج، وللنسائي من طريق أشهب عن مالك " في أمر الحج " وكان ابن الزبير لم يمكن الحجاج وعسكره من دخول مكة فوقف قبل الطواف. قوله: (فجاء ابن عمر رضي الله عنهما وأنا معه) القائل هو سالم، ووقع في رواية عبد الرزاق عن معمر عن الزهري " فركب هو وسالم وأنا معهما " وفي روايته " قال ابن شهاب: وكنت يومئذ صائما فلقيت من الحر شدة " واختلف الحفاظ في رواية معمر هذه فقال يحيى بن معين: هي وهم، ابن شهاب لم ير ابن عمر ولا سمع منه. وقال الذهلي لست أدفع رواية معمر لأن ابن وهب روى عن العمري عن ابن شهاب نحو رواية معمر، وروى عنبسة بن خالد عن يونس عن ابن شهاب قال " وفدت إلى مروان وأنا محتلم " قال الذهلي: ومروان مات سنة خمس وستين، وهذه القصة كانت سنة ثلاث وسبعين انتهى. وقال غيره. أن رواية عنبسة هذه أيضا وهم، وإنما قال الزهري وفدت على عبد الملك، ولو كان الزهري وفد على مروان لأدرك جلة الصحابة ممن ليست له عنهم رواية إلا بواسطة. وقد أدخل مالك وعقيل - وإليهما المرجع في حديث الزهري - بينه وبين ابن عمر في هذه القصة سالما فهذا هو المعتمد. قوله: (فصاح عند سرادق الحجاج) أي خيمته، زاد الإسماعيلي من هذا الوجه " أين هذا " أي الحجاج. ومثله يأتي بعد باب من رواية القعنبي. قوله: (وعليه ملحفة) بكسر الميم أي إزار كبير، والمعصفر المصبوغ بالعصفر. وقوله "يا أبا عبد الرحمن " هي كنية ابن عمر، وقوله "الرواح " بالنصب أي عجل أو رح. قوله: (إن كنت تريد السنة) في رواية ابن وهب " إن كنت مريد أن تصيب السنة". قوله: (فأنظرني) بالهمزة وكسر الظاء المعجمة أي أخرني، وللكشميهني بألف وصل وضم الظاء أي انتظرني. قوله: (فنزل) يعني ابن عمر كما صرح به بعد بابين. قوله: (فاقصر) بألف موصولة ومهملة مكسورة. قال ابن عبد البر: هذا الحديث يدخل عندهم في المسند لأن المراد بالسنة سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أطلقت ما لم تضف إلى صاحبها كسنة العمرين. قلت: وهي مسألة خلاف عند أهل الحديث والأصول، وجمهورهم على ما قال ابن عبد البر، وهي طريقة البخاري ومسلم، ويقويه قول سالم لابن شهاب إذ قال له " أفعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال: وهل يتبعون في ذلك إلا سنته "؟ وسيأتي بعد باب. قوله: (وعجل الوقوف) قال ابن عبد البر: كذا رواه القعنبي وأشهب، وهو عندي غلط لأن أكثر الرواة عن مالك قالوا " وعجل الصلاة " قال ورواية القعنبي لها وجه، لأن تعجيل الوقوف يستلزم تعجيل الصلاة. قلت: قد وافق القعنبي عبد الله بن يوسف كما ترى، ورواية أشهب التي أشار إليها عند النسائي، فهؤلاء ثلاثة رووه هكذا، فالظاهر أن الاختلاف فيه من مالك، وكأنه ذكره باللازم لأن الغرض بتعجيل الصلاة حينئذ تعجيل الوقوف، قال ابن بطال: وفي هذا الحديث الغسل للوقوف بعرفة لقول الحجاج لعبد الله أنظرني، فانتظره، وأهل العلم يستحبونه انتهى. ويحتمل أن يكون ابن عمر إنما انتظره لحمله على أن اغتساله عن ضرورة. نعم روى مالك في " الموطأ " عن نافع أن ابن عمر كان يغتسل لوقوفه عشية عرفة. وقال الطحاوي: فيه حجة لمن أجاز المعصفر للمحرم، وتعقبه ابن المنير في الحاشية بأن الحجاج لم يكن يتقي المنكر الأعظم من سفك الدماء وغيره حتى يتقي المعصفر، وإنما لم ينهه ابن عمر لعلمه بأنه لا ينجع فيه النهي، ولعلمه بأن الناس لا يقتدون بالحجاج انتهى ملخصا. وفيه نظر لأن الاحتجاج إنما هو بعدم إنكار ابن عمر، فبعدم إنكاره يتمسك الناس في اعتقاد الجواز، وقد تقدم الكلام على مسألة المعصفر في بابه. وقال المهلب: فيه جواز تأمير الأدون على الأفضل. وتعقبه ابن المنير أيضا بأن صاحب الأمر في ذلك هو عبد الملك، وليس بحجة ولا سيما في تأمير الحجاج، وأما ابن عمر فإنما أطاع لذلك فرارا من الفتنة. قال: وفيه أن إقامة الحج إلى الخلفاء، وأن الأمير يعمل في الدين بقول أهل العلم ويصير إلى رأيهم. وفيه مداخلة العلماء السلاطين وأنه لا نقيصة عليهم في ذلك. وفيه فتوى التلميذ بحضرة معلمه عند السلطان وغيره، وابتداء العالم بالفتوى قبل أن يسأل عنه، وتعقبه ابن المنير بأن ابن عمر إنما ابتدأ بذلك لمسألة عبد الملك له في ذلك، فإن الظاهر أنه كتب إليه بذلك كما كتب إلى الحجاج، قال: وفيه الفهم بالإشارة والنظر لقول سالم " فجعل الحجاج ينظر إلى عبد الله، فلما رأى ذلك قال: صدق " انتهى. وفيه طلب العلو في العلم لتشوف الحجاج إلى سماع ما أخبره به سالم من أبيه ابن عمر، ولم ينكر ذلك ابن عمر. وفيه تعليم الفاجر السنن لمنفعة الناس. وفيه احتمال المفسدة الخفيفة لتحصيل المصلحة الكبيرة يؤخذ ذلك من مضي ابن عمر إلى الحجاج وتعليمه. وفيه الحرص على نشر العلم لانتفاع الناس به. وفيه صحة الصلاة خلف الفاسق، وأن التوجه إلى المسجد الذي بعرفة حين تزول الشمس للجمع بين الظهر والعصر في أول وقت الظهر سنة، ولا يضر التأخر بقدر ما يشتغل به المرء من متعلقات الصلاة كالغسل ونحوه. وسيأتي بقية ما فيه في الذي يليه. *3* الشرح: قوله: (باب الوقوف على الدابة بعرفة) أورد فيه حديث أم الفضل في فطره صلى الله عليه وسلم يوم عرفة بها، وقد تقدم قريبا، ويأتي الكلام عليه في كتاب الصيام، وموضع الحاجة منه قوله فيه " وهو واقف على بعيره " وأصرح منه حديث جابر الطويل عند مسلم ففيه " ثم ركب إلى الموقف فلم يزل واقفا حتى غربت الشمس " واختلف أهل العلم في أيهما أفضل: الركوب أو تركه بعرفة؟ فذهب الجمهور إلى أن الأفضل الركوب لكونه صلى الله عليه وسلم وقف راكبا، ومن حيث النظر فإن في الركوب عونا على الاجتهاد في الدعاء والتضرع المطلوب حينئذ كما ذكروا مثله في الفطر، وذهب آخرون إلى أن استحباب الركوب يختص بمن يحتاج الناس إلى التعليم منه، وعن الشافعي قول أنهما سواء، واستدل به على أن الوقوف على ظهر الدواب مباح، وأن النهي الوارد في ذلك محمول على ما إذا أجحف بالدابة. *3* وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مَعَ الْإِمَامِ جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَقَالَ اللَّيْثُ حَدَّثَنِي عُقَيْلٌ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ أَخْبَرَنِي سَالِمٌ أَنَّ الْحَجَّاجَ بْنَ يُوسُفَ عَامَ نَزَلَ بِابْنِ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا سَأَلَ عَبْدَ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَيْفَ تَصْنَعُ فِي الْمَوْقِفِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ سَالِمٌ إِنْ كُنْتَ تُرِيدُ السُّنَّةَ فَهَجِّرْ بِالصَّلَاةِ يَوْمَ عَرَفَةَ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صَدَقَ إِنَّهُمْ كَانُوا يَجْمَعُونَ بَيْنَ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ فِي السُّنَّةِ فَقُلْتُ لِسَالِمٍ أَفَعَلَ ذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ سَالِمٌ وَهَلْ تَتَّبِعُونَ فِي ذَلِكَ إِلَّا سُنَّتَهُ الشرح: قوله: (باب الجمع بين الصلاتين بعرفة) لم يبين حكم ذلك، وقد ذهب الجمهور إلى أن ذلك الجمع المذكور يختص بمن يكون مسافرا بشرطه، وعن مالك والأوزاعي وهو وجه للشافعية أن الجمع بعرفة جمع للنسك فيحوز لكل أحد، وروى ابن المنذر بإسناد صحيح عن القاسم بن محمد " سمعت ابن الزبير يقول: إن من سنة الحج أن الإمام يروح إذا زالت الشمس يخطب فيخطب الناس، فإذا فرغ من خطبته نزل فصلى الظهر والعصر جميعا، واختلف فيمن صلى وحده كما سيأتي. قوله: (وكان ابن عمر إلخ) وصله إبراهيم الحربي في المناسك له قال " حدثنا الحوضي عن همام أن نافعا حدثه أن ابن عمر كان إذا لم يدرك الإمام يوم عرفة جمع بين الظهر والعصر في منزله " وأخرج الثوري في جامعه رواية عبد الله بن الوليد العدني عنه عن عبد العزيز بن أبي رواد عن نافع مثله، وأخرجه ابن المنذر من هذا الوجه، وبهذا قال الجمهور، وخالفهم في ذلك النخعي والثوري وأبو حنيفة فقالوا: يختص الجمع بمن صلى مع الإمام، وخالف أبا حنيفة في ذلك صاحباه والطحاوي، ومن أقوى الأدلة لهم صنيع ابن عمر هذا، وقد روى حديث جمع النبي صلى الله عليه وسلم بين الصلاتين وكان مع ذلك يجمع وحده فدل على أنه عرف أن الجمع لا يختص بالإمام، ومن قواعدهم أن الصحابي إذا خالف ما روى دل على أن عنده علما بأن مخالفه أرجح تحسينا للظن به فينبغي أن يقال هذا هنا، وهذا في الصلاة بعرفة، وأما صلاة المغرب فعند أبي حنيفة وزفر ومحمد يجب تأخيرها إلى العشاء فلو صلاها في الطريق أعاد، وعن مالك يجوز لمن به أو بدابته عذر فيصليها لكن بعد مغيب الشفق الأحمر، وعن المدونة يعيد من صلى المغرب قبل أن يأتي جمعا، وكذا من جمع بينها وبين العشاء بعد مغيب الشفق فيعيد العشاء، وعن أشهب: إن جاء جمعا قبل الشفق جمع. وقال ابن القاسم: حتى يغيب، وعند الشافعية وجمهور أهل العلم: لو جمع تقديما أو تأخيرا قبل جمع أو بعد أن نزلها أو أفرد أجزأ وفاتت السنة. واختلافهم مبني على أن الجمع بعرفة وبمزدلفة للنسك أو للسفر. قوله: (وقال الليث إلخ) وصله الإسماعيلي من طريق يحيى بن بكير وأبي صالح جميعا عن الليث. قوله: (سأل عبد الله) يعني ابن عمر. قوله: (فهجر بالصلاة) أي صل بالهاجرة وهي شدة الحر. قوله: (إنهم كانوا يجمعون بين الظهر والعصر في السنة) بضم المهملة وتشديد النون أي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وكأن ابن عمر فهم من قول ولده سالم " فهجر بالصلاة " أي الظهر والعصر معا فأجاب بذلك فطابق كلام ولده. وقال الطيبي: قوله " في السنة " هو حال من فاعل يجمعون أي متوغلين في السنة، قاله تعريضا بالحجاج. قوله: (فقلت لسالم) القائل هو ابن شهاب، وقوله "أفعل " بهمزة استفهام، وقوله "هل يتبعون بذلك " بتشديد المثناة وكسر الموحدة بعدها مهملة كذا للأكثر من الاتباع، وللكشميهني " يبتغون في ذلك " بسكون الموحدة وفتح المثناة بعدها غين معجمة من الابتغاء أي لا يطلبون في ذلك الفعل إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم. وفي رواية الحموي بحذف " في " وهي مقدرة. *3* الشرح: قوله: (باب قصر الخطبة بعرفة) أورد فيه حديث ابن عمر الماضي قريبا وفيه قول سالم " إن كنت تريد السنة اليوم فاقصر الخطبة " وقد تقدم الكلام عليه مستوفى، وقيد المصنف قصر الخطبة بعرفة اتباعا للفظ الحديث، وقد أخرج مسلم الأمر باقتصار الخطبة في أثناء حديث لعمار أخرجه في الجمعة، قال ابن التين: أطلق أصحابنا العراقيون أن الإمام لا يخطب يوم عرفة. وقال المدنيون والمغاربة يخطب وهو قول الجمهور، ويحمل قول العراقيين على معنى أنه ليس لما يأتي به من الخطبة تعلق بالصلاة كخطبة الجمعة، وكأنهم أخذوه من قول مالك: كل صلاة يخطب لها يجهر فيها بالقراءة، فقيل له: فعرفة يخطب فيها ولا يجهر بالقراءة فقال: إنما تلك للتعليم. *3* الشرح: قوله: (باب التعجيل إلى الموقف) كذا للأكثر هذه الترجمة بغير حديث، وسقط من رواية أبي ذر أصلا، ووقع في نسخة الصغاني هنا ما لفظه " يدخل في الباب حديث مالك عن ابن شهاب - يعني الذي رواه عن سالم وهو المذكور في الباب الذي قبل هذا - ولكني أريد أن أدخل فيه غير معاد " يعني حديثا لا يكون تكرر كله سندا ومتنا. قلت: وهو يقتضي أن أصل قصده أن لا يكرر، فيحمل على أن كل ما وقع فيه من تكرار الأحاديث إنما هو حيث يكون هناك مغايرة إما في السند وإما في المتن حتى أنه لو أخرج الحديث في الموضعين عن شيخين حدثاه به عن مالك لا يكون عنده معادا ولا مكررا، وكذا لو أخرجه في موضعين بسند واحد لكن اختصر من المتن شيئا، أو أورده في موضع موصولا وفي موضع معلقا، وهذه الطريق لم يخالفها إلا في مواضع يسيرة مع طول الكتاب إذا بعدما بين البابين بعدا شديدا. ونقل الكرماني أنه رأى في بعض النسخ عقب هذه الترجمة " قال أبو عبد الله يعني المصنف: يزاد في هذا الباب هم حديث مالك عن ابن شهاب، ولكني لا أريد أن أدخل فيه معادا " أي مكررا. قلت: كأنه لم يحضره حينئذ طريق للحديث المذكور عن مالك غير الطريقين اللتين ذكرهما، وهذا يدل على أنه لا يعيد حديثا إلا لفائدة إسنادية أو متنية كما قدمته، وأما قوله في هذه الزيادة التي نقلها الكرماني " هم " فهي بفتح الهاء وسكون الميم. قال الكرماني: قيل إنها فارسية وقيل عربية ومعناها قريب من معنى أيضا. قلت: صرح غير واحد من علماء العربية ببغداد بأنها لفظة اصطلح عليها أهل بغداد وليست بفارسية ولا هي عربية قطعا، وقد دل كلام الصغاني في نسخته التي أتقنها وحررها - وهو من أئمة اللغة - خلو كلام البخاري عن هذه اللفظة. الشرح: قوله: (باب الوقوف بعرفة) أي دون جمع فيما دونها أو فوقها. الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَمْرٌو حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ عَنْ أَبِيهِ كُنْتُ أَطْلُبُ بَعِيرًا لِي ح و حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنْ عَمْرٍو سَمِعَ مُحَمَّدَ بْنَ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعِمٍ قَالَ أَضْلَلْتُ بَعِيرًا لِي فَذَهَبْتُ أَطْلُبُهُ يَوْمَ عَرَفَةَ فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاقِفًا بِعَرَفَةَ فَقُلْتُ هَذَا وَاللَّهِ مِنْ الْحُمْسِ فَمَا شَأْنُهُ هَا هُنَا الشرح: قوله: (حدثنا سفيان) هو ابن عيينة وعمرو هو ابن دينار. قوله: (أضللت بعيرا) كذا للأكثر في الطريق الثانية. وفي رواية الكشميهني " لي " كما في الأولى. قوله: (فذهبت أطلبه يوم عرفة) في رواية الحميدي في مسنده ومن طريقه أخرجه أبو نعيم " أضللت بعيرا لي يوم عرفة فخرجت أطلبه بعرفة " فعلى هذا فقوله يوم عرفة يتعلق بأضللت، فإن جبيرا إنما جاء إلى عرفة ليطلب بعيره لا ليقف بها. قوله: (من الحمس) بضم المهملة وسكون الميم بعدها مهملة سيأتي تفسيره. قوله: (فما شأنه هاهنا) في رواية الإسماعيلي من طريق عثمان بن أبي شيبة وابن أبي عمر جميعا عن سفيان " فما له خرج من الحرم " وزاد مسلم في روايته عن عمرو الناقد وأبي بكر بن أبي شيبة عن سفيان بعد قوله " فما شأنه هاهنا ": وكانت قريش تعد من الحمس وهذه الزيادة توهم أنها من أصل الحديث وليس كذلك بل هي من قول سفيان بينه الحميدي في مسنده عنه، ولفظه متصلا بقوله " ما شأنه هاهنا". قال سفيان والأحمس الشديد على دينه، وكانت قريش تسمى الحمس، وكان الشيطان قد استهواهم فقال لهم إنكم إن عظمتم غير حرمكم استخف الناس بحرمكم فكانوا لا يخرجون من الحرم. ووقع عند الإسماعيلي من طريقيه بعد قوله " فما له خرج من الحرم " قال سفيان الحمس يعني قريشا، وكانت تسمى الحمس وكانت لا تجاوز الحرم ويقولون نحن أهل الله لا نخرج من الحرم وكان سائر الناس يقف بعرفة وذلك قوله: وعرف بهاتين الزيادتين معنى حديث جبير، وكأن البخاري حذفهما استغناء بالرواية عن عروة، لكن في سياق سفيان فوائد زائدة. وقد روى بعض ذلك ابن خزيمة وإسحاق بن راهويه في مسنده موصولا من طريق ابن إسحاق حدثنا عبد الله بن أبي بكر عن عثمان بن أبي سليمان عن عمه نافع بن جبير عن أبيه قال " كانت قريش إنما تدفع من المزدلفة ويقولون نحن الحمس فلا نخرج من الحرم، وقد تركوا الموقف بعرفة، قال: فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجاهلية يقف مع الناس بعرفة على جمل له ثم يصبح مع قومه بالمزدلفة فيقف معهم ويدفع إذا دفعوا". ولفظ يونس بن بكير عن ابن إسحاق في المغازي مختصرا وفيه " توفيقا من الله له". وأخرجه إسحاق أيضا عن الفضل بن موسى عن عثمان بن الأسود عن عطاء أن حبير بن مطعم قال: أضللت حمارا لي في الجاهلية فوجدته بعرفة فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم واقفا بعرفات مع الناس، فلما أسلمت علمت أن الله وفقه لذلك". وأما تفسير الحمس فروى إبراهيم الحربي في " غريب الحديث " من طريق ابن جريج عن مجاهد قال: الحمس قريش ومن كان يأخذ مأخذها هن القبائل كالأوس والخزرج وخزاعة وثقيف وغزوان وبني عامر وبني صعصعة وبني كنانة إلا بني بكر، والأحمس في كلام العرب الشديد، وسموا بذلك لما شددوا على أنفسهم، وكانوا إذا أهلوا بحج أو عمرة لا يأكلون لحما ولا يضربون وبرا ولا شعرا، وإذا قدموا مكة وضعوا ثيابهم التي كانت عليهم. وروى إبراهيم أيضا من طريق عبد العزيز بن عمران المدني قال: سموا حمسا بالكعبة لأنها حمساء حجرها أبيض يضرب إلى السواد انتهى. والأول أشهر وأكثر وأنه من التحمس وهو التشدد، قال أبو عبيدة معمر بن المثنى: تحمس تشدد، ومنه حمس الوغي إذا اشتد، وسيأتي مزيد لذلك في الكلام على الحديث الذي بعده. وأفادت هذه الرواية أن رواية جبير له لذلك كانت قبل الهجرة، وذلك قبل أن يسلم جبير، وهو نظير روايته أنه سمعه يقرأ في المغرب بالطور وذلك قبل أن يسلم جبير أيضا كما تقدم، وتضمن ذلك التعقب على السهيلي حيث ظن أن رواية جبير لذلك كانت في الإسلام في حجة الوداع فقال: انظر كيف أنكر جبير هذا وقد حج بالناس عتاب سنة ثمان وأبو بكر سنة تسع، ثم قال: إما أن يكونا وقفا بجمع كما كانت قريش تصنع، وإما أن يكون جبير لم يشهد معهما الموسم. وقال الكرماني: وقفة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعرفة كانت سنة عشر وكان جبير حينئذ مسلما لأنه أسلم يوم الفتح، فإن كان سؤاله عن ذلك إنكارا أو تعجبا فلعله لم يبلغه نزول قوله تعالى وهذا الأخير هو المعتمد كما بينته قبل بدلائله، وكأنه تبع السهيلي في ظنه أنها حجة الوداع، أو وقع له اتفاقا، ودل هذا الحديث على أن المراد بقوله تعالى وظاهر سياق الآية أنها الإفاضة من مزدلفة لأنها ذكرت بلفظة " ثم " بعد ذكر الأمر بالذكر عند المشعر الحرام. وأجاب بعض المفسرين بأن الأمر بالذكر عند المشعر الحرام بعد الإفاضة من عرفات التي سيقت بلفظ الخبر لما ورد منه على المكان الذي تشرع الإفاضة منه، فالتقدير فإذا أفضتم اذكروا ثم لتكن إفاضتكم من حيث أفاض الناس لا من حيث كان الحمس يفيضون، أو التقدير فإذا أفضتم من عرفات إلى المشعر الحرام فاذكروا الله عنده ولتكن إفاضتكم من المكان الذي يفيض فيه الناس غير الحمس. الحديث: حَدَّثَنَا فَرْوَةُ بْنُ أَبِي الْمَغْرَاءِ حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ مُسْهِرٍ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ قَالَ عُرْوَةُ كَانَ النَّاسُ يَطُوفُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ عُرَاةً إِلَّا الْحُمْسَ وَالْحُمْسُ قُرَيْشٌ وَمَا وَلَدَتْ وَكَانَتْ الْحُمْسُ يَحْتَسِبُونَ عَلَى النَّاسِ يُعْطِي الرَّجُلُ الرَّجُلَ الثِّيَابَ يَطُوفُ فِيهَا وَتُعْطِي الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ الثِّيَابَ تَطُوفُ فِيهَا فَمَنْ لَمْ يُعْطِهِ الْحُمْسُ طَافَ بِالْبَيْتِ عُرْيَانًا وَكَانَ يُفِيضُ جَمَاعَةُ النَّاسِ مِنْ عَرَفَاتٍ وَيُفِيضُ الْحُمْسُ مِنْ جَمْعٍ قَالَ وَأَخْبَرَنِي أَبِي عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْحُمْسِ ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ قَالَ كَانُوا يُفِيضُونَ مِنْ جَمْعٍ فَدُفِعُوا إِلَى عَرَفَاتٍ الشرح: قوله: (قال عروة) في رواية عبد الرزاق عن معمر " عن هشام بن عروة عن أبيه فذكره". قوله: (والحمس قريش وما ولدت) زاد معمر " وكان ممن ولدت قريش خزاعة وبنو كنانة وبنو عامر بن صعصعة"، وقد تقدم في أثر مجاهد أن منهم أيضا غزوان وغيرهم، وذكر إبراهيم الحربي في غريبه عن أبي عبيدة معمر بن المثنى قال: كانت قريش إذا خطب إليهم الغريب اشترطوا عليه أن ولدها على دينهم، فدخل في الحمس من غير قريش ثقيف وليث وخزاعة وبنو عامر بن صعصعة يعني وغيرهم. وعرف بهذا أن المراد بهذه القبائل من كانت له من أمهاته قريشية، لا جميع القبائل المذكورة. قوله: (فأخبرني أبي) القائل هو هشام بن عروة، والموصول من الحديث هذا القدر في سبب نزول هذه الآية وسيأتي في تفسير البقرة من وجه آخر أتم من هذا. وقوله "فدفعوا إلى عرفات " في رواية الكشميهني " فرفعوا " بالراء، ولمسلم من طريق أبي أسامة عن هشام " رجعوا إلى عرفات " والمعني أنهم أمروا أن يتوجهوا إلى عرفات ليقفوا بها ثم يفيضوا منها، وقد تقدم في طريق جبير سبب امتناعهم من ذلك، وتقدم الكلام على قصة الطواف عريانا في أوائل الصلاة، وعرف برواية عائشة أن المخاطب بقوله تعالى (أفيضوا) النبي صلى الله عليه وسلم، والمراد به من كان لا يقف بعرفة من قريش وغيرهم. وروى ابن أبي حاتم وغيره عن الضحاك أن المراد بالناس هنا إبراهيم الخليل عليه السلام، وعنه المراد به الإمام، وعن غيره آدم، وقرئ في الشواذ " الناسي " بكسر السين بوزن القاضي والأول أصح، نعم الوقوف بعرفة موروث عن إبراهيم كما روى الترمذي وغيره من طريق يزيد بن شيبان قال " كنا وقوفا بعرفة فأتانا ابن مريع فقال: إني رسول رسول الله إليكم، يقول لكم: كونوا على مشاعركم، فإنكم على إرث من إرث إبراهيم " الحديث، ولا يلزم من ذلك أن يكون هو المراد خاصة ب قوله: وأما الإتيان في الآية بقوله: (ثم) فقيل هي بمعنى الواو وهذا اختيار الطحاوي، وقيل لقصد التأكيد لا لمحض الترتيب، والمعنى فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام ثم اجعلوا الإفاضة التي تفيضونها من حيث أفاض الناس لا من حيث كنتم تفيضون، قال الزمخشري: وموقع (ثم) هنا موقعها من قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم، فتأتي ثم لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم والإحسان إلى غيره، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من عرفات بين لهم مكان الإفاضة فقال (ثم أفيضوا) لتفاوت ما بين الإفاضتين وأن إحداهما صواب والأخرى خطأ، قال الخطابي: تضمن قوله تعالى *3* الشرح: قوله: (باب السير إذا دفع من عرفة) أي صفته. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ أَخْبَرَنَا مَالِكٌ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ سُئِلَ أُسَامَةُ وَأَنَا جَالِسٌ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسِيرُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ حِينَ دَفَعَ قَالَ كَانَ يَسِيرُ الْعَنَقَ فَإِذَا وَجَدَ فَجْوَةً نَصَّ قَالَ هِشَامٌ وَالنَّصُّ فَوْقَ الْعَنَقِ قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ فَجْوَةٌ مُتَّسَعٌ وَالْجَمِيعُ فَجَوَاتٌ وَفِجَاءٌ وَكَذَلِكَ رَكْوَةٌ وَرِكَاءٌ مَنَاصٌ لَيْسَ حِينَ فِرَارٍ الشرح: قوله: (عن أبيه) في رواية ابن خزيمة من طريق سفيان عن هشام " سمعت أبي". قوله: (سئل أسامة وأنا جالس) في رواية النسائي من طريق عبد الرحمن بن القاسم عن مالك " وأنا جالس معه " وفي رواية مسلم من طريق حماد بن زيد عن هشام عن أبيه " سئل أسامة وأنا شاهد وقال سألت أسامة بن زيد". قوله: (حين دفع) في رواية يحيى بن يحيى الليثي وغيره عن مالك في الموطأ " حين دفع من عرفة". قوله: (العتق) بفتح المهملة والنون هو السير الذي بين الإبطاء والإسراع، قال في " المشارق ": هو سير سهل في سرعة. وقال القزاز: العنق سير سريع، وقيل المشي الذي يتحرك به عنق الدابة، وفي " الفائق ": العنق الخطو الفسيح. وانتصب العنق على المصدر المؤكد من لفظ الفعل. قوله: (نص) أي أسرع، قال أبو عبيد: النص تحريك الدابة حتى يستخرج به أقصى ما عندها، وأصل النص غاية المشي ومنه نصصت الشيء رفعته، ثم استعمل في ضرب سريع من السير. قوله: (قال هشام) يعني ابن عروة الراوي، وكذا بين مسلم من طريق حميد بن عبد الرحمن وأبو عوانة من طريق أنس بن عياض كلاهما عن هشام أن التفسير من كلامه، وأدرجه يحيى القطان فيما أخرجه المصنف في الجهاد، وسفيان فيما أخرجه النسائي، وعبد الرحيم بن سليمان ووكيع فيما أخرجه ابن خزيمة كلهم عن هشام، وقد رواه إسحاق في مسنده عن وكيع ففصله وجعل التفسير من كلام وكيع، وقد رواه ابن خزيمة من طريق سفيان ففصله وجعل التفسير من كلام سفيان، وسفيان ووكيع إنما أخذا التفسير المذكور عن هشام فرجع التفسير إليه، وقد رواه أكثر رواة " الموطأ " عن مالك فلم يذكروا التفسير، وكذلك رواه أبو داود الطيالسي عن حماد بن سلمة ومسلم من طريق حماد بن زيد كلاهما عن هشام، قال ابن خزيمة: في هذا الحديث دليل على أن الحديث الذي رواه ابن عباس عن أسامة أنه قال " فما رأيت ناقته رافعة يدها حني أتى جمعا " أنه محمول على حال الزحام دون غيره ا هـ، وأشار بذلك إلى ما أخرجه حفص من طريق الحكم عن مقسم عن ابن عباس عن أسامة " أن النبي صلى الله عليه وسلم أردفه حين أفاض من عرفة وقال: أيها الناس، عليكم بالسكينة، فإن البر ليس بإلايجاف، قال: فما رأيت ناقته رافعة يدها حتى أتى جمعا " الحديث، وأخرجه أبو داود، وسيأتي للمصنف بعد باب من حديث ابن عباس ليس فيه أسامة، ويأتي الكلام عليه هناك. وأخرج مسلم من طريق عطاء عن ابن عباس عن أسامة في أثناء حديث قال " فما زال يسير على هينته حتى أتى جمعا " وهذا يشعر بأن ابن عباس إنما أخذه عن أسامة كما ستأتي الحجة لذلك. وقال ابن عبد البر: في هذا الحديث كيفية السير في الدفع من عرفة إلى مزدلفة لأجل الاستعجال للصلاة، لأن المغرب لا تصلى إلا مع العشاء بالمزدلفة، فيجمع بين المصلحتين من الوقار والسكينة عند الزحمة، ومن الإسراع عند عدم الزحام، وفيه أن السلف كانوا يحرصون على السؤال عن كيفية أحواله صلى الله عليه وسلم في جميع حركاته وسكونه ليقتدوا به في ذلك. قوله: (فجوة) بفتح الفاء وسكون الجيم المكان المتسع كما سيأتي تفسيره في آخر الباب، ورواه أبو مصعب ويحيى بن بكير وغيرهما عن مالك بلفظ " فرجة " بضم الفاء وسكون الراء وهو بمعنى الفجوة. قوله في رواية المستملي وحده (قال أبو عبد الله) هو المصنف. (فجوة: متسع والجمع فجوات) أي بفتحتين. (وفجاء) أي بكسر الفاء والمد. (وكذلك ركوة وركاء) وركوات. قوله: (مناص ليس حين فرار) أي هرب، أي تفسير قوله تعالى *3* الشرح: قوله: (باب النزول بين عرفة وجمع) أي لقضاء الحاجة ونحوها، وليس من المناسك. الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَيْثُ أَفَاضَ مِنْ عَرَفَةَ مَالَ إِلَى الشِّعْبِ فَقَضَى حَاجَتَهُ فَتَوَضَّأَ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتُصَلِّي فَقَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَكَ الشرح: قوله: (عن يحيى بن سعيد) هو الأنصاري وروايته عن موسى بن عقبة من رواية الأقران لأنهما تابعيان صغيران، وقد حمله موسى عن كريب فصار في الإسناد ثلاثة من التابعين. قوله: (حيث أفاض) في رواية أبي الوقت " حين " هي أولى لأنها ظرف زمان وحيث ظرف مكان. (نكتة) : في حيث ست لغات ضم آخرها وفتحه وكسره وبالواو بدل الياء مع الحركات. قوله: (مال إلى الشعب) بين محمد بن أبي حرملة في روايته الآتية بعد حديث عن كريب أنه قرب المزدلفة، وأردف المصنف بهذا الحديث حديث ابن عمر أنه كان يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك في كونه يقضي الحاجة بالشعب ويتوضأ لكنه لا يصلي إلا بالمزدلفة، وقوله "فينتفض " بفاء وضاد معجمة أي يستجمر، وقد سبق بيانه في كتاب الطهارة، وأخرجه الفاكهي من وجه آخر عن ابن عمر من طريق سعيد بن جبير قال " دفعت مع ابن عمر من عرفة، حني إذا وازينا الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء المغرب دخله ابن عمر فتنفض فيه، ثم توضأ وكبر، فانطلق حتى جاء جمعا فأقام فصلى المغرب. فلما سلم قال: الصلاة، ثم صلى العشاء " وأصله في الجمع بجمع عند مسلم وأصحاب السنن، وروى الفاكهي أيضا من طريق ابن جريج قال: قال عطاء " أردف النبي صلى الله عليه وسلم أسامة، فلما جاء الشعب الذي يصلي فيه الخلفاء الآن المغرب نزل فأهرق الماء ثم توضأ " وظاهر هذين الطريقين أن الخلفاء كانوا يصلون المغرب عند الشعب المذكور قبل دخول وقت العشاء، وهو خلاف السنة في الجمع بين الصلاتين بمزدلفة. ووقع عند مسلم من طريق محمد بن عقبة عن كريب " لما أتى الشعب الذي ينزله الأمراء " وله من طريق إبراهيم بن عقبة عن كريب " الشعب الذي ينيخ الناس فيه للمغرب " والمراد بالخلفاء والأمراء في هذا الحديث بنو أمية فلم يوافقهم ابن عمر على ذلك، وقد جاء عن عكرمة إنكار ذلك، وروى الفاكهي أيضا من طريق ابن أبي نجيح سمعت عكرمة يقول: اتخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم مبالا واتخذتموه مصلى، وكأنه أنكر بذلك على من ترك الجمع بين الصلاتين لمخالفته السنة في ذلك، وكان جابر يقول: لا صلاة إلا بجمع، أخرجه ابن المنذر بإسناد صحيح، ونقل عن الكوفيين، وعند ابن القاسم صاحب مالك وجوب الإعادة، وعن أحمد إن صلى أجزأه وهو قول أبي يوسف والجمهور. الحديث: حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ جَعْفَرٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي حَرْمَلَةَ عَنْ كُرَيْبٍ مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ قَالَ رَدِفْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ عَرَفَاتٍ فَلَمَّا بَلَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشِّعْبَ الْأَيْسَرَ الَّذِي دُونَ الْمُزْدَلِفَةِ أَنَاخَ فَبَالَ ثُمَّ جَاءَ فَصَبَبْتُ عَلَيْهِ الْوَضُوءَ فَتَوَضَّأَ وُضُوءًا خَفِيفًا فَقُلْتُ الصَّلَاةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ الصَّلَاةُ أَمَامَكَ فَرَكِبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى أَتَى الْمُزْدَلِفَةَ فَصَلَّى ثُمَّ رَدِفَ الْفَضْلُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَدَاةَ جَمْعٍ قَالَ كُرَيْبٌ فَأَخْبَرَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ الْفَضْلِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى بَلَغَ الْجَمْرَةَ الشرح: قوله: (عن محمد بن أبي حرملة) هو المدني مولى آل حويطب ولا يعرف اسم أبيه، وكان خصيف يروي عنه فيقول " حدثني محمد بن حويطب " فذكر ابن حبان أن خصيفا كان ينسبه إلى جد مواليه، والإسناد من شيخ قتيبة إلخ كلهم مدنيون. قوله: (ردفت رسول الله صلى الله عليه وسلم) بكسر الدال أي ركبت وراءه، وفيه الركوب حال الدفع من عرفة والارتداف على الدابة، ومحله إذا كانت مطيقة، وارتداف أهل الفضل، ويعد ذلك من إكرامهم للرديف لا من سوء أدبه. قوله: (فصببت عليه الوضوء) بفتح الواو أي الماء الذي يتوضأ به، ويؤخذ منه الاستعانة في الوضوء، وللفقهاء فيها تفصيل لأنها إما أن تكون في إحضار الماء مثلا أو في صبه على المتوضئ أو مباشرة غسل أعضائه، فالأول جائز والثالث مكروه إلا إن كان لعذر، واختلف في الثاني والأصح أنه لا يكره بل هو خلاف الأولى، فأما وقوع ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فهو إما لبيان الجواز وهو حينئذ أفضل في حقه أو للضرورة. قوله: (وضوءا خفيفا) أي خففه بأن توضأ مرة مرة وخفف استعمال الماء بالنسبة إلى غالب عادته، وهو معنى قوله في رواية مالك الآتية بعد باب بلفظ " فلم يسبغ الوضوء " وأغرب ابن عبد البر فقال: معنى قوله " فلم يسبغ الوضوء " أي استنجى به، وأطلق عليه اسم الوضوء اللغوي لأنه من الوضاءة وهي النظافة ومعني الإسباغ الإكمال أي لم يكمل وضوءه فيتوضأ للصلاة، قال: وقد قيل إنه نوضأ وضوءا خفيفا، ولكن الأصول تدفع هذا لأنه لا يشرع الوضوء لصلاة واحدة مرتين، وليس ذلك في رواية مالك. ثم قال: وقد قيل إن معنى قوله " لم يسبغ الوضوء " أي لم يتوضأ في جميع أعضاء الوضوء بل اقتصر على بعضها، واستضعفه ا هـ. وحكى ابن بطال أن عيسى بن دينار من قدماء أصحابهم سبق ابن عبد البر إلى ما اختاره أو لا، وهو متعقب بهذه الرواية الصريحة، وقد تابع محمد بن أبي حرملة عليها محمد بن عقبة أخو موسى أخرجه مسلم بمثل لفظه، وتابعهما إبراهيم بن عقبة أخو موسى أيضا أخرجه مسلم أيضا بلفظ " فتوضأ وضوءا ليس بالبالغ"، وقد تقدم في الطهارة من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد عن موسى بن عقبة بلفظ " فجعلت أصب عليه ويتوضأ"، ولم تكن عادته صلى الله عليه وسلم أن يباشر ذلك أحد منه حال الاستنجاء، ويوضحه ما أخرجه مسلم أيضا من طريق عطاء مولى ابن سباع عن أسامة في هذه القصة قال فيها أيضا " ذهب إلى الغائط فلما رجع صببت عليه من الإداوة " قال القرطبي: اختلف الشراح في قوله " ولم يسبغ الوضوء " هل المراد به اقتصر به على بعض الأعضاء فيكون وضوءا لغويا، أو اقتصر على بعض العدد فيكون وضوءا شرعيا؟ قال: وكلاهما محتمل، لكن يعضد من قال بالثاني قوله في الرواية الأخرى " وضوءا خفيفا " لأنه يقال في الناقص خفيف، ومن موضحات ذلك أيضا قول أسامة له " الصلاة " فإنه يدل على أنه رآه يتوضأ وضوءه للصلاة ولذلك قال له أتصلي، كذا قال ابن بطال وفيه نظر لأنه لا مانع أن يقول له ذلك لاحتمال أن يكون مراده أتريد الصلاة فلم لم تتوضأ وضوءها؟ وجوابه بأن الصلاة أمامك معناه أن المغرب لا تصلي هنا فلا تحتاج إلى وضوء الصلاة، وكأن أسامة طن أنه صلى الله عليه وسلم نسي صلاة المغرب ورأى وقتها قد كاد أن يخرج أو خرج، فأعلمه النبي صلى الله عليه وسلم أنها في تلك الليلة يشرع تأخيرها لتجمع مع العشاء بالمزدلفة، ولم يكن أسامة يعرف تلك السنة قبل ذلك وأما اعتلال ابن عبد البر بأن الوضوء لا يشرع مرتين لصلاة واحدة فليس بلازم لاحتمال أنه توضأ ثانيا عن حدث طارئ، وليس الشرط بأنه لا يشرع تجديد الوضوء إلا لمن أدى به صلاة فرضا أو نفلا متفق عليه، بل ذهب جماعة إلى جوازه وإن كان الأصح خلافه، وإنما توضأ أولا ليستديم الطهارة ولا سيما في تلك الحالة لكثرة الاحتياج إلى ذكر الله حينئذ، وخفف الوضوء لقلة الماء حينئذ، وقد تقدم شيء من هذا في أوائل الطهارة. وقال الخطابي: إنما ترك إسباغه حين نزل الشعب ليكون مستصحبا للطهارة في طريقه، وتجوز فيه لأنه لم يرد أن يصلي به، فلما نزل وأرادها أسبغه. وقول أسامة " الصلاة " بالنصب على إضمار الفعل، أي تذكر الصلاة أو صل، ويجوز الرفع على تقدير حضرت الصلاة مثلا. قوله "الصلاة أمامك " بالرفع وأمامك بفتح الهمزة بالنصب على الظرفية أي الصلاة ستصلى بين يديك، أو أطلق الصلاة على مكانها أي المصلى بين يديك، أو معنى أمامك لا تفوتك وستدركها، وفيه تذكير التابع بما تركه متبوعه ليفعله أو يعتذر عنه أو يبين له وجه صوابه. قوله: (حتى أتى المزدلفة فصلى) أي لم يبدأ بشيء قبل الصلاة، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم " ثم سار حتى بلغ جمعا فصلى المغرب والعشاء"، وقد بينه في رواية مالك بعد باب بلفظ " حتى جاء المزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء، ثم أقيمت الصلاة فصلى المغرب، ثم أناخ كل إنسان بعيره في منزله، ثم أقيمت الصلاة فصلى ولم يصل بينهما " وبين مسلم من وجه آخر عن إبراهيم بن عقبة عن كريب أنهم لم يزيدوا بين الصلاتين على الإناخة ولفظه " فأقام المغرب، ثم أناخ الناس، ولم يحلوا حتى أقام العشاء فصلوا ثم حلوا " وكأنهم صنعوا ذلك رفقا بالدواب أو للأمن من تشويشهم بها، وفيه إشعار بأنه خفف القراءة في الصلاتين، وفيه أنه لا بأس بالعمل اليسير بين الصلاتين اللتين يجمع بينهما ولا يقطع ذلك الجمع، وسيأتي البحث في ذلك بعد ثلاثة أبواب. وقوله في رواية مالك " ولم يصل بينهما " أي لم يتنفل، وسيأتي حديث ابن عمر في ذلك بعد بابين. قوله: (ثم ردف الفضل) أي ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الفضل بن العباس بن عبد المطلب، ووقع في رواية إبراهيم بن عقبة عند مسلم " قال كريب فقلت لأسامة: كيف فعلتم حين أصبحتم؟ قال ردفه الفضل بن العباس وانطلقت أنا في سباق قريش على رجلي " يعني إلى منى. وسيأتي الكلام على التلبية بعد سبعة أبواب، واستدل بالحديث على جمع التأخير وهو إجماع بمزدلفة، لكنه عند الشافعية وطائفة بسبب السفر وعند الحنفية والمالكية بسبب النسك، وأغرب الخطابي فقال: فيه دليل على أنه لا يجوز أن يصلي الحاج المغرب إذا أفاض من عرفة حتى يبلغ المزدلفة، ولو أجزأته في غيرها لما أخرها النبي صلى الله عليه وسلم عن وقتها المؤقت لها في سائر الأيام. *3* الشرح: قوله: (باب أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالسكينة عند الإفاضة) أي من عرفة. الحديث: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي مَرْيَمَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سُوَيْدٍ حَدَّثَنِي عَمْرُو بْنُ أَبِي عَمْرٍو مَوْلَى الْمُطَّلِبِ أَخْبَرَنِي سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مَوْلَى وَالِبَةَ الْكُوفِيُّ حَدَّثَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّهُ دَفَعَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمَ عَرَفَةَ فَسَمِعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَرَاءَهُ زَجْرًا شَدِيدًا وَضَرْبًا وَصَوْتًا لِلْإِبِلِ فَأَشَارَ بِسَوْطِهِ إِلَيْهِمْ وَقَالَ أَيُّهَا النَّاسُ عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ فَإِنَّ الْبِرَّ لَيْسَ بِالْإِيضَاعِ أَوْضَعُوا أَسْرَعُوا خِلَالَكُمْ مِنْ التَّخَلُّلِ بَيْنَكُمْ وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا بَيْنَهُمَا الشرح: قوله: (حدثنا إبراهيم بن سويد) هو المدني وهو ثقة لكن قال ابن حبان: في حديثه مناكير انتهى. وهذا الحديث قد تابعه عليه سليمان بن بلال عند الإسماعيلي، والراوي عنه إبراهيم بن سويد مدني أيضا واسم جده حبان، ووهم الأصيلي فسماه مولى حكاه الجياني وخطؤوه فيه. قوله: (مولى المطلب) أي ابن عبد الله بن حنطب. قوله: (مولى والبة) بكسر اللام بعدها موحدة خفيفة بطن من بني أسد. قوله: (أنه دفع مع النبي صلى الله عليه وسلم يوم عرفة) أي من عرفة. قوله: (زجرا) بفتح الزاي وسكون الجيم بعدها راء أي صياحا لحث الإبل. قوله: (وضربا) زاد في رواية كريمة " وصوتا " وكأنها تصحيف من قوله وضربا فظنت معطوفة. قوله: (عليكم بالسكينة) أي في السير، والمراد السير بالرفق وعدم المزاحمة. قوله: (فإن البر ليس بالإيضاع) أي السير السريع، ويقال هو سير مثل الخبب فبين صلى الله عليه وسلم أن تكلف الإسراع في السير ليس البر أي مما يتقرب به، ومن هذا أخذ عمر بن عبد العزيز قوله لما خطب بعرفة " ليس السابق من سبق بعيره وفرسه، ولكن السابق من غفر له " وقال المهلب: إنما نهاهم عن الإسراع إبقاء عليهم لئلا يجحفوا بأنفسهم مع بعد المسافة. قوله: (أوضعوا أسرعوا) هو من كلام المصنف، وهو قول أبي عبيدة في المجاز. قوله: (خلالكم من التخلل بينكم) هو أيضا من قول أبي عبيدة ولفظه " ولأوضعوا أي لأسرعوا، خلالكم أي بينكم وأصله من التخلل " وقال غيره المعنى وليسعوا بينكم بالنميمة يقال أوضع البعير أسرعه وخص الراكب لأنه أسرع من الماشي، وقوله: (وفجرنا خلالهما: بينهما) هو قول أبي عبيدة أيضا ولفظه " وفجرنا خلالهما أي وسطهما وبينهما " وإنما ذكر البخاري هذا التفسير لمناسبة أوضعوا للفظ الإيضاع، ولما كان متعلق أوضعوا الخلال ذكر تفسيره تكثيرا للفائدة. *3* الشرح: قوله: (باب الجمع بين الصلاتين بالمزدلفة) أي المغرب والعشاء، ذكر فيه حديث أسامة وقد تقدم الكلام عليه مستوفى قبل باب. *3* الشرح: قوله: (باب من جمع بينهما) أي بين الصلاتين المذكورتين. قوله: (ولم يتطوع) أي لم يتنفل بينهما. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي ذِئْبٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ سَالِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ جَمَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ بِجَمْعٍ كُلُّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا بِإِقَامَةٍ وَلَمْ يُسَبِّحْ بَيْنَهُمَا وَلَا عَلَى إِثْرِ كُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهُمَا الشرح: قوله: (جمع النبي صلى الله عليه وسلم المغرب والعشاء) كذا لأبي ذر، ولغيره " بين المغرب والعشاء". قوله: (بجمع) بفتح الجيم وسكون الميم أي المزدلفة، وسميت جمعا لأن آدم اجتمع فيها مع حواء، وازدلف إليها أي دنا منها، وروي عن قتادة أنها سميت جمعا لأنها يجمع فيها بين الصلاتين، وقيل وصفت بفعل أهلها لأنهم يجتمعون بها ويزدلفون إلى الله أي يتقربون إليه بالوقوف فيها، وسميت المزدلفة إما لاجتماع الناس بها أو لاقترابهم إلى منى أو لازدلاف الناس منها جميعا أو للنزول بها في كل زلفة من الليل أو لأنها منزلة وقربة إلى الله أو لازدلاف آدم إلى حواء بها. قوله: (بإقامة) لم يذكر الأذان، وسيأتي البحث فيه بعد باب. قوله: (ولم يسبح بينهما) أي لم يتنفل، و قوله: (ولا على إثر كل واحدة منهما) أي عقبها، ويستفاد منه أنه ترك التنفل عقب المغرب وعقب العشاء، ولما لم يكن بين المغرب والعشاء مهلة صرح بأنه لم يتنفل بينهما، بخلاف العشاء فإنه يحتمل أن يكون المراد أنه لم يتنفل عقبها لكنه تنفل بعد ذلك في أثناء الليل، ومن ثم قال الفقهاء تؤخر سنة العشاءين عنهما، ونقل ابن المنذر الإجماع على ترك التطوع بين الصلاتين بالمزدلفة لأنهم اتفقوا على أن السنة الجمع بين المغرب والعشاء بالمزدلفة، ومن تنفل بينهما لم يصح أنه جمع بينهما انتهى. ويعكر على نقل الاتفاق فعل ابن مسعود الآتي في الباب الذي بعده. الحديث: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَخْلَدٍ حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ بِلَالٍ حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ قَالَ أَخْبَرَنِي عَدِيُّ بْنُ ثَابِتٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يَزِيدَ الْخَطْمِيُّ قَالَ حَدَّثَنِي أَبُو أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيُّ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَمَعَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ بِالْمُزْدَلِفَةِ الشرح: قوله: (حدثنا يحيى) هو ابن سعيد الأنصاري وفي روايته عن عدي بن ثابت رواية تابعي عن تابعي. وفي رواية عبد الله بن يزيد شيخ عدي فيه رواية صحابي عن صحابي، والإسناد كله دائر بين مدني وكوفي، وزاد مسلم من رواية الليث عن يحيى عن عدي عن عبد الله بن يزيد " وكان أميرا على الكوفة على عهد ابن الزبير". قوله: (بالمزدلفة) مبين لقوله في رواية مالك عن يحيى بن سعيد التي أخرجها المصنف في المغازي بلفظ " أنه صلى مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع المغرب والعشاء جميعا " وللطبراني من طريق جابر الجعفي عن عدي بهذا الإسناد " صلى بجمع المغرب ثلاثا والعشاء ركعتين بإقامة واحدة " وفيه رد على قول ابن حزم: أن حديث أبي أيوب ليس فيه ذكر أذان ولا إقامة، لأن جابرا وإن كان ضعيفا فقد تابعه محمد بن أبي ليلى عن عدي على ذكر الإقامة فيه عند الطبراني أيضا فيقوى كل واحد منهما بالآخر. *3* الشرح: قوله: (باب من أذن وأقام لكل واحدة منهما) أي من المغرب والعشاء بالمزدلفة. الحديث: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ خَالِدٍ حَدَّثَنَا زُهَيْرٌ حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ يَقُولُ حَجَّ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَتَيْنَا الْمُزْدَلِفَةَ حِينَ الْأَذَانِ بِالْعَتَمَةِ أَوْ قَرِيبًا مِنْ ذَلِكَ فَأَمَرَ رَجُلًا فَأَذَّنَ وَأَقَامَ ثُمَّ صَلَّى الْمَغْرِبَ وَصَلَّى بَعْدَهَا رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ دَعَا بِعَشَائِهِ فَتَعَشَّى ثُمَّ أَمَرَ أُرَى فَأَذَّنَ وَأَقَامَ قَالَ عَمْرٌو لَا أَعْلَمُ الشَّكَّ إِلَّا مِنْ زُهَيْرٍ ثُمَّ صَلَّى الْعِشَاءَ رَكْعَتَيْنِ فَلَمَّا طَلَعَ الْفَجْرُ قَالَ إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يُصَلِّي هَذِهِ السَّاعَةَ إِلَّا هَذِهِ الصَّلَاةَ فِي هَذَا الْمَكَانِ مِنْ هَذَا الْيَوْمِ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ هُمَا صَلَاتَانِ تُحَوَّلَانِ عَنْ وَقْتِهِمَا صَلَاةُ الْمَغْرِبِ بَعْدَ مَا يَأْتِي النَّاسُ الْمُزْدَلِفَةَ وَالْفَجْرُ حِينَ يَبْزُغُ الْفَجْرُ قَالَ رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَفْعَلُهُ الشرح: قوله: (زهير) هو الجعفي، وأبو إسحاق هو السبيعي، وشيخه هو النخعي، وعبد الله هو ابن مسعود. قوله: (حج عبد الله) في رواية أحمد عن حسن بن موسى، وللنسائي من طريق حسين بن عياش كلاهما عن زهير بالإسناد " حج عبد الله بن مسعود فأمرني علقمة أن ألزمه فلزمته فكنت معه " وفي رواية إسرائيل الآتية بعد باب " خرجت مع عبد الله إلى مكة ثم قدمنا جمعا". قوله: (حين الأذان بالعتمة أو قريبا من ذلك) أي من مغيب الشفق. قوله: (فأمر رجلا) لم أقف على اسمه، ويحتمل أن يكون هو عبد الرحمن بن يزيد فإن في رواية حسن وحسين المذكورتين " فكنت معه فأتينا المزدلفة، فلما كان حين طلع الفجر قال قم، فقلت له إن هذه الساعة ما رأيتك صليت فيها". قوله: (ثم أمر أرى رجلا فأذن وأقام، قال عمرو ولا أعلم الشك إلا من زهير) أرى بضم الهمزة أي أظن، وقد بين عمرو وهو ابن خالد شيخ البخاري فيه أنه من شيخه زهير، وأخرجه الإسماعيلي من طريق الحسن بن موسى عن زهير مثل ما رواه عنه عمرو ولم يقل ما قال عمرو، وأخرجه البيهقي من طريق عبد الرحمن بن عمرو عن زهير وقال فيه " ثم أمر قال زهير أرى فأذن وأقام " وسيأتي بعد باب رواية إسرائيل عن أبي إسحاق بأصرح مما قال زهير ولفظه " ثم قدمنا جمعا فصلى الصلاتين كل صلاة وحدها بأذان وإقامة والعشاء بينهما " والعشاء بفتح العين ورواه ابن خزيمة وأحمد من طريق ابن أبي زائدة عن أبي إسحاق بلفظ " فأذن وأقام ثم صلى المغرب ثم تعشى ثم قام فأذن وأقام وصلى العشاء ثم بات بجمع، حتى إذا طلع الفجر فأذن وأقام " ولأحمد من طريق جرير بن حازم عن أبي إسحاق " فصلى بنا المغرب، ثم دعا بعشاء فتعشى ثم قام فصلى العشاء ثم رقد " ووقع عند الإسماعيلي من رواية شبابة عن ابن أبي ذئب في هذا الحديث " ولم يتطوع قبل كل واحدة منهما ولا بعدها " ولأحمد من رواية زهير " فقلت له إن هذه لساعة ما رأيتك صليت فيها". قوله: (فلما طلع الفجر) في رواية المستملي والكشميهني " فلما حين طلع الفجر " وفي رواية الحسين بن عياش عن زهير " فلما كان حين طلع الفجر". قوله: (قال عبد الله) هو ابن مسعود. قوله: (عن وقتهما) كذا للأكثر. وفي رواية السرخسي " عن وقتها " بالأفراد، وسيأتي في رواية إسرائيل بعد باب رفع هذه الجملة إلى النبي صلى الله عليه وسلم. قوله: (حين يبزغ) بزاي مضمومة وغين معجمة أي يطلع، وفي هذا الحديث مشروعية الأذان والإقامة لكل من الصلاتين إذا جمع بينهما، قال ابن حزم: لم نجده مرويا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولو ثبت عنه لقلت به. ثم أخرج من طريق عبد الرزاق عن أبي بكر بن عياش عن أبي إسحاق في هذا الحديث: قال أبو إسحاق فذكرته لأبي جعفر محمد بن علي فقال: أما نحن أهل البيت فهكذا نصنع، قال ابن حزم: وقد روي عن عمر من فعله، قلت أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح عنه، ثم تأوله بأنه محمول على أن أصحابه تفرقوا عنه فأذن لهم ليجتمعوا ليجمع بهم، ولا يخفى تكلفه، ولو تأتي له ذلك في حق عمر - لكونه كان الإمام الذي يقيم للناس حجهم - لم يتأت له في حق ابن مسعود لأنه إن كان معه ناس من أصحابه لا يحتاج في جمعهم إلى من يؤذن لهم، وقد أخذ بظاهره مالك، وهو اختيار البخاري. وروى ابن عبد البر عن أحمد بن خالد أنه كان يتعجب من مالك حيث أخذ بحديث ابن مسعود وهو من رواية الكوفيين مع كونه موقوفا ومع كونه لم يروه ويترك ما روي عن أهل المدينة وهو مرفوع، قال ابن عبد البر: وأعجب أنا من الكوفيين حيث أخذوا بما رواه أهل المدينة وهو أن يجمع بينهما بأذان وإقامة واحدة وتركوا ما رووا في ذلك عن ابن مسعود مع أنهم لا يعدلون به أحدا. قلت: الجواب عن ذلك أن مالكا اعتمد على صنيع عمر في ذلك وإن كان لم يروه في " الموطأ " واختار الطحاوي ما جاء عن جابر يعني في حديثه الطويل الذي أخرجه مسلم أنه جمع بينهما بأذان واحد وإقامتين، وهذا قول الشافعي في القديم ورواية عن أحمد وبه قال ابن الماجشون وابن حزم وقواه الطحاوي بالقياس على الجمع بين الظهر والعصر بعرفة. وقال الشافعي في الجديد والثوري وهو رواية عن أحمد: يجمع بينهما بإقامتين فقط، وهو ظاهر حديث أسامة الماضي قربيا حيث قال " فأقام المغرب ثم أناخ الناس ولم يحلوا حتى أقام العشاء " وقد جاء عن ابن عمر كل واحد من هذه الصفات أخرجه الطحاوي وغيره، وكأنه كان يراه من الأمر الذي يتخير فيه الإنسان، وهو المشهور عن أحمد، واستدل بحديث ابن مسعود على جواز التنفل بين الصلاتين إن أراد الجمع بينهما لكون ابن مسعود تعشى بين الصلاتين، ولا حجة فيه لأنه لم يرفعه، ويحتمل أن لا يكون قصد الجمع، وظاهر صنيعه يدل على ذلك لقوله إن المغرب تحول عن وقتها فرأى أنه وقت هذه المغرب خاصة، ويحتمل أن يكون قصد الجمع وكان يرى أن العمل بين الصلاتين لا يقطعه إذا كان ناويا للجمع، ويحتمل قوله " تحول عن وقتها " أي المعتاد، وأما إطلاقه على صلاة الصبح أنها تحول عن وقتها فليس معناه أنه أوقع الفجر قبل طلوعها، وإنما أراد أنها وقعت قبل الوقت المعتاد فعلها فيه في الحضر، ولا حجة فيه لمن منع التغليس بصلاة الصبح لأنه ثبت عن عائشة وغيرها كما تقدم في المواقيت التغليس بها، بل المراد هنا أنه كان إذا أتاه المؤذن بطلوع الفجر صلى ركعتي الفجر في بيته ثم خرج فصلى الصبح مع ذلك بغلس، وأما بمزدلفة فكان الناس مجتمعين والفجر نصب أعينهم فبادر بالصلاة أول ما بزغ حتى أن بعضهم كان لم يتبين له طلوعه، وهو بين في رواية إسرائيل الآتية حيث قال " ثم صلى الفجر حين طلع الفجر، قائل يقول طلع الفجر وقائل يقول لم يطلع " واستدل الحنفية بحديث ابن مسعود هذا على ترك الجمع بين الصلاتين في غير يوم عرفة وجمع لقول ابن مسعود " ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاتين " وأجاب المجوزون بأن من حفظ حجة على من لم يحفظ، وقد ثبت الجمع بين الصلاتين من حديث ابن عمر وأنس وابن عباس وغيرهم وتقدم في موضعه بما فيه كفاية، وأيضا فالاستدلال به إنما هو من طريق المفهوم وهم لا يقولون به، وأما من قال به فشرطه أن لا يعارضه منطوق، وأيضا فالحصر فيه ليس على ظاهره لإجماعهم على مشروعية الجمع بين الظهر والعصر بعرفة. *3* الشرح: قوله: (باب من قدم ضعفة أهله) أي من نساء وغيرهم. قوله: (بليل) أي من منزله بجمع. قوله: (فيقفون بالمزدلفة ويدعون ويقدم) ضبطه الكرماني بفتح القاف وكسر الدال قال: وحذف الفاعل للعلم به وهو من ذكر أولا، وبفتح الدال على البناء للمجهول. وقوله "إذا غاب القمر " بيان للمراد من قوله في أول الترجمة " بليل"، ومغيب القمر تلك الليلة يقع عند أوائل الثلث الأخير، ومن ثم قيده الشافعي ومن تبعه بالنصف الثاني. قال صاحب " المغني ": لا نعلم خلافا في جواز تقديم الضعفة بليل من جمع إلى منى. الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ بُكَيْرٍ حَدَّثَنَا اللَّيْثُ عَنْ يُونُسَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ قَالَ سَالِمٌ وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يُقَدِّمُ ضَعَفَةَ أَهْلِهِ فَيَقِفُونَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِلَيْلٍ فَيَذْكُرُونَ اللَّهَ مَا بَدَا لَهُمْ ثُمَّ يَرْجِعُونَ قَبْلَ أَنْ يَقِفَ الْإِمَامُ وَقَبْلَ أَنْ يَدْفَعَ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ مِنًى لِصَلَاةِ الْفَجْرِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقْدَمُ بَعْدَ ذَلِكَ فَإِذَا قَدِمُوا رَمَوْا الْجَمْرَةَ وَكَانَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَرْخَصَ فِي أُولَئِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: قوله: (قال سالم) في رواية ابن وهب عند مسلم عن يونس عن ابن شهاب أن سالم بن عبد الله أخبره. قوله: (المشعر) بفتح الميم والعين، وحكى الجوهري كسر الميم وقيل إنه لغة أكثر العرب. وقال ابن قرقول: كسر الميم لغة لا رواية. وقال ابن قتيبة: لم يقرأ بها في الشواذ، وقيل بل قرئ حكاه الهذلي. وسمي المشعر لأنه معلم للعبادة، والحرام لأنه من الحرم أو لحرمته. وقوله "ما بدا لهم " بغير همز أي ظهر لهم، وأشعر ذلك بأنه لا توقيف لهم فيه. قوله: (ثم يرجعون) في رواية مسلم " ثم يدفعون " وهو أوضح، ومعنى الأول أنهم يرجعون عن الوقوف إلى الدفع ثم يقدمون منى على ما فصل في الخبر، وقوله "لصلاة الفجر " أي عند صلاة الفجر. قوله: (وكان ابن عمر يقول أرخص في أولئك رسول الله صلى الله عليه وسلم) كذا وقع فيه أرخص، وفي بعض الروايات رخص بالتشديد وهو أظهر من حيث المعنى لأنه من الترخيص لا من الرخص، واحتج به ابن المنذر لقول من أوجب المبيت بمزدلفة على غير الضعفة لأن حكم من لم يرخص له ليس كحكم من رخص له، قال: ومن زعم أنهما سواء لزمه أن يجيز المبيت على منى لسائر الناس لكونه صلى الله عليه وسلم أرخص لأصحاب السقاية وللرعاء أن لا يبيتوا بمنى، قال: فإن قال لا تعدوا بالرخص مواضعها فليستعمل ذلك هنا، ولا يأذن لأحد أن يتقدم من جمع إلا لمن رخص له رسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى. وقد اختلف السلف في هذه المسألة فقال علقمة والنخعي والشعبي: من ترك المبيت بمزدلفة فاته الحج. وقال عطاء والزهري وقتادة والشافعي والكوفيون وإسحاق: عليه دم، قالوا: ومن بات بها لم يجز له الدفع قبل النصف. وقال مالك: إن مر بها فلم ينزل فعليه دم، وإن نزل فلا دم عليه متى دفع، وفي حديث ابن عمر دلالة على جواز رمي جمرة العقبة قبل طلوع الشمس لقوله " أن من يقدم عند صلاة الفجر إذا قدم رمى الجمرة " وسيأتي ذلك صريحا من صنيع أسماء بنت أبي بكر في الحديث الثالث من هذا الباب، ويأتي الكلام عليه فيه إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ بَعَثَنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ جَمْعٍ بِلَيْلٍ الشرح: حديث ابن عباس، وفائدته تعيين من أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهله في ذلك، وأورده من وجهين في الثاني منهما أنه ليس البعث المذكور خاصا له لأن اللفظ الأول وهو قول " بعثني " قد يوهم اختصاصه بذلك وفي الثاني " أنا ممن قدم " فأفهم أنه لم يختص، وقوله في الثاني " في ضعفة أهله " قد أخرجه المصنف في " باب حج الصبيان " من طريق حماد عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ " في الثقل " زاد مسلم من هذا الوجه " وقال في الضعفة"، ولسفيان فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس مثله، وقد أخرج طريق عطاء هذه مطولة الطحاوي من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير عن عطاء [قال أخبرني] ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس " قال فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف، ولأبي داود من طريق حبيب عن عطاء عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس " ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي الزبير عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة". الحديث: حَدَّثَنَا عَلِيٌّ حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ أَخْبَرَنِي عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ سَمِعَ ابْنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا يَقُولُ أَنَا مِمَّنْ قَدَّمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْمُزْدَلِفَةِ فِي ضَعَفَةِ أَهْلِهِ الشرح: حديث ابن عباس، وفائدته تعيين من أذن لهم النبي صلى الله عليه وسلم من أهله في ذلك، وأورده من وجهين في الثاني منهما أنه ليس البعث المذكور خاصا له لأن اللفظ الأول وهو قول " بعثني " قد يوهم اختصاصه بذلك وفي الثاني " أنا ممن قدم " فأفهم أنه لم يختص، وقوله في الثاني " في ضعفة أهله " قد أخرجه المصنف في " باب حج الصبيان " من طريق حماد عن عبيد الله بن أبي يزيد بلفظ " في الثقل " زاد مسلم من هذا الوجه " وقال في الضعفة"، ولسفيان فيه إسناد آخر أخرجه مسلم عن أبي بكر بن أبي شيبة عنه عن عمرو بن دينار عن عطاء عن ابن عباس مثله، وقد أخرج طريق عطاء هذه مطولة الطحاوي من رواية إسماعيل بن عبد الملك بن أبي الصفير عن عطاء [قال أخبرني] ابن عباس قال " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس ليلة المزدلفة: اذهب بضعفائنا ونسائنا فليصلوا الصبح بمنى وليرموا جمرة العقبة قبل أن تصيبهم دفعة الناس " قال فكان عطاء يفعله بعدما كبر وضعف، ولأبي داود من طريق حبيب عن عطاء عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم ضعفاء أهله بغلس " ولأبي عوانة في صحيحه من طريق أبي الزبير عن ابن عباس " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم العيال والضعفة إلى منى من المزدلفة". الحديث: حَدَّثَنَا مُسَدَّدٌ عَنْ يَحْيَى عَنْ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ مَوْلَى أَسْمَاءَ عَنْ أَسْمَاءَ أَنَّهَا نَزَلَتْ لَيْلَةَ جَمْعٍ عِنْدَ الْمُزْدَلِفَةِ فَقَامَتْ تُصَلِّي فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْتُ لَا فَصَلَّتْ سَاعَةً ثُمَّ قَالَتْ يَا بُنَيَّ هَلْ غَابَ الْقَمَرُ قُلْت نَعَمْ قَالَتْ فَارْتَحِلُوا فَارْتَحَلْنَا وَمَضَيْنَا حَتَّى رَمَتْ الْجَمْرَةَ ثُمَّ رَجَعَتْ فَصَلَّتْ الصُّبْحَ فِي مَنْزِلِهَا فَقُلْتُ لَهَا يَا هَنْتَاهُ مَا أُرَانَا إِلَّا قَدْ غَلَّسْنَا قَالَتْ يَا بُنَيَّ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِلظُّعُنِ الشرح: قوله: (حدثني عبد الله مولى أسماء) هو ابن كيسان المدني يكنى أبا عمر، ليس له في البخاري سوى هذا الحديث وآخر سيأتي في أبواب العمرة، وقد صرح ابن جريج بتحديث عبد الله له هكذا في رواية مسدد هذه عن يحيى، وكذا رواه مسلم عن محمد بن أبي بكر المقدمي وابن خزيمة عن بندار، وكذا أخرجه أحمد في مسنده كلهم عن يحيى، وأخرجه مسلم من طريق عيسى بن يونس، وأخرجه الإسماعيلي من طريق داود العطار، والطبراني من طريق ابن عيينة، والطحاوي من طريق سعيد بن سالم، وأبو نعيم من طريق محمد بن بكير كلهم عن ابن جريج، وأخرجه أبو داود عن محمد بن خلاد عن يحيى القطان عن ابن جريج عن عطاء أخبرني مخبر عن أسماء، وأخرجه مالك عن يحيى بن سعيد عن عطاء أن مولى أسماء أخبره، وكذا أخرجه الطبراني من طريق أبي خالد الأحمر عن يحيى بن سعيد، فالظاهر أن ابن جريج سمعه من عطاء ثم لقي عبد الله فأخذه عنه، ويحتمل أن يكون مولى أسماء شيخ عطاء غير عبد الله. قوله: (قالت فارتحلوا) في رواية مسلم " قالت ارتحل بي". قوله: (فمضينا حتى رمت الجمرة) في رواية ابن عيينة " فمضينا بها". قوله: (يا هنتاه) أي يا هذه، وقد سبق ضبطه في " باب الحج أشهر معلومات". قوله: (ما أرانا) بضم الهمزة أي أظن. وفي رواية مسلم بالجزم " فقلت لها لقد غلسنا " وفي رواية مالك " لقد جئنا منى بغلس " وفي رواية داود العطار " لقد ارتحلنا بليل " وفي رواية أبي داود " فقلت أنا رمينا الجمرة بليل وغلسنا " أي جئنا بغلس. قوله: (أذن للظعن) بضم الظاء المعجمة جمع ظعينة وهي المرأة في الهودج ثم أطلق على المرأة مطلقا. وفي رواية أبي داود المذكورة " إنا كنا نصنع هذا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم " وفي رواية مالك " لقد كنا نفعل ذلك مع من هو خير منك " تعني النبي صلى الله عليه وسلم، واستدل بهذا الحديث على جواز الرمي قبل طلوع الشمس عند من خص التعجيل بالضعفة وعند من لم يخصص، وخالف في ذلك الحنفية فقالوا: لا يرمي جمرة العقبة إلا بعد طلوع الشمس، فإن رمى قبل طلوع الشمس وبعد طلوع الفجر جاز، وإن رماها قبل الفجر أعادها، وبهذا قال أحمد وإسحاق والجمهور، وزاد إسحاق " ولا يرميها قبل طلوع الشمس " وبه قال النخعي ومجاهد والثوري وأبو ثور، ورأى جواز ذلك قبل طلوع الفجر عطاء وطاوس والشعبي والشافعي، واحتج الجمهور بحديث ابن عمر الماضي قبل هذا، واحتج إسحاق بحديث ابن عباس " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لغلمان بني عبد المطلب: لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " وهو حديث حسن أخرجه أبو داود والنسائي والطحاوي وابن حبان من طريق الحسن العرني - وهو بضم المهملة وفتح الراء بعدها نون - عن ابن عباس، وأخرجه الترمذي والطحاوي من طرق عن الحكم عن مقسم عنه، وأخرجه أبو داود من طريق حبيب عن عطاء، وهذه الطرق يقوي بعضها بعضا، ومن ثم صححه الترمذي وابن حبان. وإذا كان من رخص له منع أن يرمي قبل طلوع الشمس فمن لم يرخص له أولى. واحتج الشافعي بحديث أسماء هذا. ويجمع بينه وبين حديث ابن عباس بحمل الأمر في حديث ابن عباس علي الندب، ويؤيده ما أخرجه الطحاوي من طريق شعبة مولى ابن عباس عنه قال " بعثني النبي صلى الله عليه وسلم مع أهله وأمرني أن أرمي مع الفجر " وقال ابن المنذر. السنة أن لا يرمي إلا بعد طلوع الشمس كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يجوز الرمي قبل طلوع الفجر لأن فاعله مخالف للسنة، ومن رمى حينئذ فلا إعادة عليه إذ لا أعلم أحدا قال لا يجزئه. واستدل به أيضا على إسقاط الوقوف بالمشعر الحرام عن الضعفة، ولا دلالة فيه لأن رواية أسماء ساكتة عن الوقوف، وقد بينته رواية ابن عمر التي قبلها. وقد اختلف السلف في هذه المسألة فكان بعضهم يقول: ومن مر بمزدلفة فلم ينزل بها فعليه دم، ومن نزل بها ثم دفع منها في أي وقت كان من الليل فلا دم عليه ولو لم يقف مع الإمام. وقال مجاهد وقتادة والزهري والثوري: من لم يقف بها فقد ضيع نسكا وعليه دم، وهو قول أبي حنيفة وأحمد وإسحاق وأبي ثور، وروي عن عطاء، وبه قال الأوزاعي لا دم عليه مطلقا، وإنما هو منزل من شاء نزل به ومن شاء لم ينزل به. وروى الطبري بسند فيه ضعف عن عبد الله بن عمرو مرفوعا " إنما جمع منزل لدلج المسلمين " وذهب ابن بنت الشافعي وابن خزيمة إلى أن الوقوف بها ركن لا يتم الحج إلا به، وأشار ابن المنذر إلى ترجيحه، ونقله ابن المنذر عن علقمة والنخعي، والعجب أنهم قالوا من لم يقف بها فاته الحج ويجعل إحرامه عمرة، واحتج الطحاوي بأن الله لم يذكر الوقوف وإنما قال قال: وما احتجوا به من حديث عروة بن مضرس - وهو بضم الميم وفتح المعجمة وتشديد الراء المكسورة بعدها مهملة - رفعه قال " من شهد معنا صلاة الفجر بالمزدلفة وكان قد وقف قبل ذلك بعرفة ليلا أو نهارا فقد تم حجه " لإجماعهم أنه لو بات بها ووقف ونام عن الصلاة فلم يصلها مع الإمام حتى فاتته أن حجه تام انتهى. وحديث عروة أخرجه أصحاب السنن وصححه ابن حبان والدارقطني والحاكم ولفظ أبي داود عنه " أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالموقف - يعني يجمع - قلت جئت يا رسول الله من جبل طيء فأكلت مطيتي وأتعبت نفسي، والله ما تركت من جبل إلا وقفت عليه، فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أدرك معنا هذه الصلاة وأتى عرفات قبل ذلك ليلا أو نهارا فقد تم حجه وقضى تفثه " وللنسائي " من أدرك جمعا مع الإمام والناس حتى يفيضوا فقد أدرك الحج، ومن لم يدرك مع الإمام والناس فلم يدرك " ولأبي يعلى " ومن لم يدرك جمعا فلا حج له " وقد صنف أبو جعفر العقيلي جزءا في إنكار هذه الزيادة وبين أنها من رواية مطرف عن الشعبي عن عروة وأن مطرفا كان يهم في المتون، وقد ارتكب ابن حزم الشطط فزعم أنه من لم يصل صلاة الصبح بمزدلفة مع الإمام أن الحج يفوته التزاما لما ألزمه به الطحاوي، ولم يعتبر ابن قدامة مخالفته هذه فحكى الإجماع على الإجزاء كما حكاه الطحاوي، وعند الحنفية يجب بترك الوقوف بها دم لمن ليس به عذر، ومن جملة الأعذار عندهم الزحام. الحديث: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ هُوَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ الْقَاسِمِ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ جَمْعٍ وَكَانَتْ ثَقِيلَةً ثَبْطَةً فَأَذِنَ لَهَا الشرح: قوله: (عن القاسم) هو ابن محمد بن أبي بكر والد عبد الرحمن الراوي عنه. قوله: (استأذنت سودة) أي بنت زمعة أم المؤمنين. قوله: (ثقيلة) أي من عظم جسمها. قوله: (ثبطة) بفتح المثلثة وكسر الموحدة بعدها مهملة خفيفة أي بطيئة الحركة كأنها تثبط بالأرض أي تشبث بها، ولم يذكر محمد بن كثير شيخ البخاري فيه عن سفيان وهو الثوري ما استأذنته سودة فيه، فلذلك عقبه بطريق أفلح عن القاسم المبينة لذلك، وقد أخرجه ابن ماجه من طريق وكيع عن الثوري فبين ذلك ولفظه " أن سودة بنت زمعة كانت امرأة ثبطة، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تدفع من جمع قبل دفعة الناس فأذن لها"، ولأبي عوانة من طريق قبيصة عن الثوري " قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم سودة ليلة جمع"، وأخرجه مسلم من طريق وكيع فلم يسق لفظه، ومن طريق عبد الله بن عمر العمري عن عبد الرحمن بن القاسم بلفظ " وددت أني كنت استأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم كما استأذنته سودة فأصلي الصبح بمنى فأرمي الجمرة قبل أن يأتي الناس " فذكر بقية الحديث مثل سياق محمد بن كثير، وله نحوه من طريق أيوب عن عبد الرحمن بن القاسم وفيه من الزيادة " وكانت عائشة لا تفيض إلا مع الإمام". الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ حَدَّثَنَا أَفْلَحُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ نَزَلْنَا الْمُزْدَلِفَةَ فَاسْتَأْذَنَتْ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَوْدَةُ أَنْ تَدْفَعَ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَكَانَتْ امْرَأَةً بَطِيئَةً فَأَذِنَ لَهَا فَدَفَعَتْ قَبْلَ حَطْمَةِ النَّاسِ وَأَقَمْنَا حَتَّى أَصْبَحْنَا نَحْنُ ثُمَّ دَفَعْنَا بِدَفْعِهِ فَلَأَنْ أَكُونَ اسْتَأْذَنْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا اسْتَأْذَنَتْ سَوْدَةُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ مَفْرُوحٍ بِهِ الشرح: قوله: (حدثنا أفلح بن حميد عن القاسم) في رواية الإسماعيلي من طريق ابن المبارك عن أفلح " أخبرنا القاسم " وله من طريق أبي بكر الحنفي عن أفلح " سمعت القاسم". قوله: (أن تدفع قبل حطمة الناس) في رواية مسلم عن القعنبي عن أفلح " أن تدفع قبله وقبل حطمة الناس " والحطمة بفتح الحاء وسكون الطاء المهملتين الزحمة. قوله: (فلأن أكون) بفتح اللام فهو مبتدأ وخبره " أحب " وقولها " مفروح " أي ما يفرح به من كل شيء. (تنبيه) : وقع عند مسلم عن القعنبي عن أفلح بن حميد ما يشعر بأن تفسير الثبطة بالثقيلة من القاسم راوي الخبر ولفظه " وكانت امرأة ثبطة، يقول القاسم: والثبطة الثقيلة " ولأبي عوانة من طريق ابن أبي فديك عن أفلح بعد أن ساق الحديث بلفظ " وكانت امرأة ثبطة قال: الثبطة الثقيلة " وله من طريق أبي عامر العقدي عن أفلح " وكانت امرأة ثبطة، يعني ثقيلة " فعلى هذا فقوله في رواية محمد بن كثير عند المصنف وكانت امرأة ثقيلة ثبطة من الأدراج الواقع قبل ما أدرج عليه وأمثلته قليلة جدا، وسببه أن الراوي أدرج التفسير بعد الأصل فظن الراوي الآخر أن اللفظين ثابتان في أصل المتن فقدم وأخر. والله أعلم. *3* الشرح: قوله: (باب متى يصلي الفجر بجمع) ذكر فيه حديث ابن مسعود مختصرا ومطولا. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ قَالَ حَدَّثَنِي عُمَارَةُ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ مَا رَأَيْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَّى صَلَاةً بِغَيْرِ مِيقَاتِهَا إِلَّا صَلَاتَيْنِ جَمَعَ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ وَصَلَّى الْفَجْرَ قَبْلَ مِيقَاتِهَا الشرح: قوله: (حدثني عمارة) هو ابن عمير، وعبد الرحمن هو ابن يزيد النخعي، والإسناد كله كوفيون. قوله: (لغير ميقاتها) في رواية غير أبي ذر " بغير " بالموحدة بدل اللام، والمراد في غير وقتها المعتاد كما بيناه في الكلام عليه قبل باب. الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ رَجَاءٍ حَدَّثَنَا إِسْرَائِيلُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ قَالَ خَرَجْنَا مَعَ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى مَكَّةَ ثُمَّ قَدِمْنَا جَمْعًا فَصَلَّى الصَّلَاتَيْنِ كُلَّ صَلَاةٍ وَحْدَهَا بِأَذَانٍ وَإِقَامَةٍ وَالْعَشَاءُ بَيْنَهُمَا ثُمَّ صَلَّى الْفَجْرَ حِينَ طَلَعَ الْفَجْرُ قَائِلٌ يَقُولُ طَلَعَ الْفَجْرُ وَقَائِلٌ يَقُولُ لَمْ يَطْلُعْ الْفَجْرُ ثُمَّ قَالَ إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ إِنَّ هَاتَيْنِ الصَّلَاتَيْنِ حُوِّلَتَا عَنْ وَقْتِهِمَا فِي هَذَا الْمَكَانِ الْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ فَلَا يَقْدَمُ النَّاسُ جَمْعًا حَتَّى يُعْتِمُوا وَصَلَاةَ الْفَجْرِ هَذِهِ السَّاعَةَ ثُمَّ وَقَفَ حَتَّى أَسْفَرَ ثُمَّ قَالَ لَوْ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَفَاضَ الْآنَ أَصَابَ السُّنَّةَ فَمَا أَدْرِي أَقَوْلُهُ كَانَ أَسْرَعَ أَمْ دَفْعُ عُثْمَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَلَمْ يَزَلْ يُلَبِّي حَتَّى رَمَى جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ يَوْمَ النَّحْرِ الشرح: قوله: (خرجت) في رواية غير أبي ذر " خرجنا". قوله: (والعشاء بينهما) بفتح المهملة لا بكسرها أي الأكل، وقد تقدم إيضاحه. قوله: (فلا يقدم) بفتح الدال. قوله: (حتى يعتموا) أي يدخلوا في العتمة وهو وقت العشاء الآخرة كما تقدم بيانه في المواقيت. قوله: (لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن) يعني عثمان كما بين في آخر الكلام، وقوله: (فما أدري) هو كلام عبد الرحمن بن يزيد الراوي عن ابن مسعود، وأخطأ من قال أنه كلام ابن مسعود، والمراد أن السنة الدفع من المشعر الحرام عند الإسفار قبل طلوع الشمس، خلافا لما كان عليه أهل الجاهلية كما في حديث عمر الذي بعده. (فائدة) : وقع في رواية جرير بن حازم عن أبي إسحاق عند أحمد من الزيادة في هذا الحديث أن نظير هذا القول صدر من ابن مسعود عند الدفع من عرفة أيضا ولفظه " لما وقفنا بعرفة غابت الشمس فقال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب، قال: فما أدري أكلام ابن مسعود أسرع أو إفاضة عثمان، قال: فأوضع الناس. ولم يزد ابن مسعود على العنق حتى أتى جمعا " وله من طريق زكريا عن أبي إسحاق في هذا الحديث " أفاض ابن مسعود من عرفة على هينته لا يضرب بعيره حتى أتى جمعا " وقال سعيد بن منصور " حدثنا سفيان وأبو معاوية عن الأعمش عن عمارة بن عمير عن عبد الرحمن بن يزيد أن ابن مسعود أوضع بعيره في وادي محسر " وهذه الزيادة مرفوعة في حديث جابر الطويل في صفة الحج عند مسلم. قوله: (فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة) سيأتي الكلام عليه في الباب الذي يليه إن شاء الله تعالى.
|